بقلم شادي لويس
حين دُعيت مصر لحضور معرض باريس الدولي في العام 1937، أسندت الحكومة مهمة تصميم الجناح المصري إلى الفنانَين المصريَين محمود مختار ومحمد ناجي. كان المعرض حدثاً فريداً، السادس من نوعه في باريس وسيكون المعرض العالمي الأخير أيضاً. فعلى مبعدة شهور من اندلاع الحرب العالمية الثانية، كانت قاعات المتحف ساحة للصراع الأيديولوجي والبروباغندا السياسية، فيما تحتدم المنافسة بين جناحي ألمانيا النازية وإيطاليا، مع الجناح السوفياتي، على اجتذاب أنظار الزائرين وقلوبهم. توسّط الجناح المصري، عمل لشيخ النحاتين المصريين، محمود مختار: تمثال صغير لرأس سعد زغلول، كرمز للاستقلال المصري، وعلى الحائط خلف التمثال، عُلّقت لوحة بالحجم الكبير لمحمد ناجي، “دموع إيزيس”، امرأة رشيقة وجميلة الملامح تقف ممشوقة القوام، ويداها معقودتان على صدرها على الطريقة المصرية القديمة، وبملابس فرعونية بيضاء تغطي جسدها كله، باستثناء القدمين واليدين.
كان خيار ناجي لتمثيل مصر، مفهوماً، جماليات الفرعونية الجديدة كانت قد هيمنت على فنون النصف الأول من القرن العشرين، وفي هذا السياق تم اعتماد صورة المرأة كرمزية لمصر. أما الثلاثينات، فجاءت بمَيل إسلامي، ربما هو ما دفع ناجي إلى إضفاء الحشمة الزائدة على ملابس المرأة. حول اللوحة التي تتوسط مدخل الجناح، تتوزع لوحات أصغر للفنان نفسه، تجسد مشاهد من الحياة اليومية في مصر، فلاحين ورعاة وصيادين، وفي كل تلك اللوحات تظهر النساء في ملابسهن الشعبية، وبأجساد أكثر امتلاء واستدارة، مقارنة بالمرأة ذات الملابس الفرعونية. وستظل تلك التقسيمة الجسدية مهيمنة في الثقافة البصرية، في مصر وعنها، الوطن تمثله الصورة النموذجية للمرأة، ممشوقة ومحتشمة، أما عامة النساء من الطبقات الشعبية فيُصوَّرن ممتلئات الأجساد.
مساء الإثنين الماضي، أمرت النيابة العامة بإلقاء القبض على سلمى الشيمي، في آخر واقعة ضمن الهجمة الأمنية الموسعة ضد النساء في مصر. وكالعادة المستحدثة، يأتي تفصيل التهم الغامضة بعد إلقاء القبض على المتهمين، بخليط من مبررات يسهل اختلاقها لاحقاً. في اليوم السابق، ظهرت الشيمي في منطقة سقارة الأثرية، وهي مرتدية الزي الفرعوني، مكشوفة الكتفين، وطرف فستانها الأبيض فوق ركبتها بقليل، وقام مرافقها بالتقاط بضع صور لها، في جوار الهرم المدرج، هي ممسكة بالصولجان الملكي وعلى رأسها تاج تزينه الأفعى الفرعونية. ملابسها أقرب إلى التجسيدات الهوليودية لكليوباترا، منها إلى “إيزيس” محمد ناجي. قوام الشيمي ممتلئ بشكل لافت، وتفاصيله بارزة وكاملة الاستدارة، ولذا بدت صورها مشابهة للحملات الترويجية التي تحتفي بأجساد النساء الممتلئات.
ألقت الشرطة القبض على المصور أيضاً، وتضاربت التصريحات الرسمية مع ما روّجه الإعلام من التهم، التصوير من دون تصريح في موقع أثري (وكأن هذه مخالفة تبرر التوقيف والاحتجاز)، خدش الحياء العام أو الإساءة إلى سمعة مصر، بالإضافة إلى جرائم غرائبية كإهانة الزي الفرعوني أو الإساءة للموقع الأثري.
في كتابها “ثلاثة وجوه للجمال: كازابلانكا وباريس والقاهرة”(2003)، تقارن الباحثة الأنثروبولوجية، سوزان أوزمان، بين المعايير الجمالية للنساء في المدن الثلاث، في صالونات تجميل القاهرة، وتمثّلات النساء في السينما والتلفزيون وفي أشكال الثقافة البصرية الأخرى. تكشف أوزمان من معايير معولمة للجسد الحديث، الجسد الأكثر خفة، سهل الحركة والشاغل للحد الأدنى من الفراغ. مساطر القياس على معايير النحافة والامتلاء والخفة والثقل، ترسم تراتبية طبقية، تقوم فيه الطبقة الوسطى بفرض تصوراتها المثالية عن الهيئة المقبولة والذوق الاجتماعي. يخبرنا كتاب أوزمان بأن الجسد الثقيل في القاهرة، كما في غيرها، لا يسقط فقط خارج معايير الجمال، بل والحداثة أيضاً، وينظر إليه بوصفه عبئاً أو فضيحة عامة.
الزي الفرعوني الذي ارتدته “فتاة سقارة” لطالما رأيناه في الأفلام والأوبريتات والمسرحيات وعروض الاحتفالات الوطنية، هو الأيقونة الأكثر تكراراً ورسوخاً في الثقافة البصرية في مصر وعنها. المناطق الأثرية يتردد عليها سنوياً مئات الآلاف من السائحات والمواطنات مكشوفات الأكتاف والسيقان لالتقاط الصور. لكن جريمة الشيمي ربما تكمن في ذلك الجسد الممتلئ بتفاصيله البارزة، كوصمة طبقية، والأدهى في تجرؤها على التباهي به.